روليت "اقتصاد السوء"

عصام الجردي
تأتي الكوارث من الولايات المتحدة، ويأتي التغيير من أوروبا . على خلفية الخطط الحكومية لمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية، أزعم أن المشهد سيكون صاخباً في الأسابيع القليلة المقبلة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، الدول الثلاث التي تحظى فيها نقابات العمال واتحاداتها بنفوذ واحترام.

حجزت الولايات المتحدة قمرة القيادة في قطار الاقتصاد العالمي . التحقت أوروبا بها بعد الحرب العالمية الثانية، وقد أعادت الولايات المتحدة إعمارها، فمكنتها من الدخول إلى صلب مؤسساتها المالية والمصرفية، وإلى موازناتها الحكومية بدعوى الإشراف على تنفيذ مشروع مارشال الممول منها . جنح القطار خارج السكة مالياً واقتصادياً واجتماعياً فجنحت معه أوروبا، وتداعت له أطراف ومراكز اقتصادية على تمركز كبير مع النظام الرأسمالي العالمي . المواطن الأمريكي المتفوق على الأوروبي تكنولوجياً وفي الاختصاص الجزئي، ودونه ثقافة عامة وهواجس وطنية، ليس مستعداً لفتح كتاب لم تمض عليه أعوام ثلاثة بعد، ومصر على تحميل باراك أوباما تركة جورج دبليو بوش.

الثقافة العامة لا قيمة كبيرة لها في الميزان الأمريكي، أما “الإستبلشمنت” الممسكة بتلابيب المال والأمن والإعلام، التي توجه الرأي العام الأمريكي، وتصر- كما أدّعي تكراراً - على إبعاد أوباما عن فترة رئاسة ثانية في انتخابات ،2012 فعديمة الثقافة الأخلاقية . أوباما يبدو أنه يتجاهل الأثر السياسي لإصراره وقف الإعفاءات الضريبية عن الأثرياء . وفي المقابل التمسك بتمويل خطة العناية الصحية وبرامج الرعاية الاجتماعية . من يتابع الإعلام الأمريكي هذه الأيام يعتقد أن حرباً طبقية على وشك الوقوع بين أوباما من جهة، وبين ولفوويتز وبولتون وميلتون فريدمان من ناحية ثانية . والغريب أن المواطن الأمريكي الذي مول من خزانته مغامرات هؤلاء الاقتصادية والعسكرية وقت ولايتي جورج دبليو بوش في البيت الأبيض، لم يقتنع بعد بالبعد الإنساني للخلاف القائم على خفض الدين وتوزيع أعبائه بين المتسببين به وبين ضحاياه.

في أوروبا يفترض أن الصورة مختلفة، لذلك ننتظر تغيرات عميقة نتيجة الأزمة . فمع وجود ثقافة وتقاليد نقابية عريقة، لجأت فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى خطط جديدة تتجاوز خفض الإنفاق القاسي إلى حرمان العمال والأجراء في القطاع العام من حقوق مكتسبة وصلت إلى زيادة ساعات العمل مرفقة بخفض الأجور وتجميدها لسنتين مقبلتين.

فرنسا قررت تعديلات على بنية العمل لإعادتها إلى ما كانت عليه قبل أن يخفض الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران ساعات العمل أسبوعياً إلى 35 من 48 ساعة . ورفع موازنة وزارة التشغيل 112 في المئة . وزاد موازنة التقاعد والبحث العلمي 512 في المئة . إجراءات مثل هذه لن تمر بسهولة في فرنسا . الحال نفسها في إسبانيا وإيطاليا . للدلالة لمن يستدل: 48 ساعة عمل أسبوعياً بدأ سريانه تدريجياً في الولايات المتحدة وكندا بعد تظاهرات عمال شيكاغو الشهيرة في الأول من مايو/أيار 1886.

وكانت فترة العمل قبلها لا علاقة لهل برقّاص الساعة . بل من الفجر إلى ما بعد المغيب . بمتوسط نحو 14 ساعة يومياً . مئة عام مضى على أحداث شيكاغو، حين خفض ميتران في الثمانينيات من القرن الماضي ساعات العمل إلى 35 . مع نيقولا ساركوزي اليوم يكون قد مضى 125 عاماً . يريد ساركوزي الآن تحريك رقّاص الساعة إلى الوراء فحسب! ولمن يعتبر أيضاً: زاد الناتج المحلي في فرنسا والدول الأوروبية خلال قرن ونصف القرن مئات أو آلاف المرات ربما . والأجر أساسي في الناتج . ساركوزي يريد خفض الأجر وزيادة ساعات العمل في وقت واحد. يستمد هذا الأمر فظاعته: أولاً لأن مسؤولية الازمة المالية والاقتصادية ليست من صنع العمال. ثانياً لأن العمال يدفعون وزر الازمة لمكافأة نصّابي الرأسمالية من خزانتهم العامة. وثالثاً لأن النصّابين أنفسهم ما زالوا يقامرون في الأسواق وكأن شيئاً لم يحصل

.

شكرا اخي موضوع رائع وجميل جدا جدا نصف